عدنان بن عبد الله القطان

23 ذو الحجة 1443 هـ – 22 يونيو 2022 م

—————————————————————–

الحمد لله على عظيم نَعمائه، والشّكرُ له على كريمِ عطائه، نحمده استِتماماً لنِعمتِه، ونشكره طلباً وابتغاءً لجوده وكرمِه، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، لا يَفتَقر مَن كفَاه، ولا يضلّ مَن هَداه، ونشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّداً عبده ورسوله خاتم أنبيائه وخيرُ أصفيائه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلِه وأصحابه وعلَى مَن أقام مِن أمّته على سنَن الحقّ إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

أيها الأخ المسلم، أيتها الأخت المسلمة: هل تبحثان عن السعادة وانشراح الصدر وطمأنينة النفس، وراحة البال؟ هل تتألمان كثيراً من تراكم الهموم، وتتأففان ملياً من تتابع الغموم؟ هل تريدان أن يهنأ لكما العيش، وتبسم لكما الحياة؟ لستما وحدكما في هذه الحياة من يريد ذلك، فكل من على هذه الأرض يبحث عما تبحثان عنه، ويتمنيان العيش في هذه الجنة المنشودة… فأين نجد عباد الله هذه الحياة الطيبة المستقرَّة؟ كيف نتذوقها في أنفسنا؟ كيف نعيشها في مجتمعاتنا، ونؤمنها لأجيالنا وأبنائنا؟ أبشرا فكتاب ربِّكما، وسنة نبيكما صلى الله عليه وآله وسلم، فيهما الهدى والشفاء، فمن اتبع النور الذي فيهما، وتمسك وعضَّ عليهما، أخذ بحظ وافر من العيش الهنيء، والحياة الطيبة، يقول تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) لقد فقه جماعة من أئمة الإسلام هذه الكنوز في الوحيين، فطابت حياتهم، وذاقوا حلاوتها، وأحسوا بنشوتها، حتى نطقت ألسنتهم بما غار في مكنوناتهم فها هو أحدهم يقول: إننا لنحس بسعادة لو يعلم بها الملوك، وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، وآخر يعبر عن طيب عيشه فيقول: إنه لتمر عليَّ ساعات أقول فيها: لو أن أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذاً في عيش طيب.. ويقول آخر: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل وما أطيب ما فيها؟ قال محبه الله تعالى ومعرفته وذكره والأنس به؟) يا من تطلب انشراح الصدر، وسعادة القلب.. اعلم رعاك الله أن مفتاح السعادة، وأُسَّها وأساسها هو في الإيمان بالله تعالى رباً، وخالقاً ومدبَّراً… إذا عرف العبد ربَّه بأسمائه وصفاته، وأنه المالك المدبِّر بيده نواصي العباد، حينئذٍ تطمئن نفسه، ويثبت جأشه، ويقوى قلبه، لأنه يعلم أنَّه يأوي إلى ركن شديد، ويحتمي بملِك عظيم، قد توكل عليه، وفوَّض أمره إليه.

أيها المؤمنون: ومن مقتضيات هذا الإيمان أن يعرف العبد أنَّ ربه تعالى قد خلقه لغاية، وأنه سبحانه شرع شرائع وحدَّ حدوداً، فمن أطاع ربه أفلح ونجح، ومن أعرض خاب وخسر، فحينئذ يعلم العبد أنَّه يعيش لهدف، ويسير إلى هدف.. فلا أمر يُحزنه، ولا شيء يقلقه؛ لأنه يسير في الدَّرب الذي رسمه له مولاه وخالقه. إنه إيمان غيبي لربٍّ ملِك عظيم، إيمانٌ يورث المحبة والرجاء والخوف، فتنطق حينها الجوارح بهذا الإيمان، فتنطلق في بحار الأعمال الصالحة بقول الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

وحين يتعلق قلب العبد بخالقه تعظيماً ورجاء وخوفاً، وتعمل من الصالحات جوارحه إتباعاً وإخلاصاً، فقد أصاب العبد حينها نور التقى، وإذا استقر في القلب التُّقى، فلْيبْشُرِ العبد بعدها بالراحة والهناء، يقول الله تعالى واعداً ومؤكداً (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) ووالله إنك لترى المؤمن التقي من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأسرهم قلباً وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة. أخي المسلم أختي المسلمة: إن ضاقت بكما الهموم، وأحاطت بكما الغموم، فافزعا إلى الصلاة، يشرح الله صدركما، ويُذهب عنكما ضيق النفس، ويرسل في قلبيكما نبضات الطمأنينة والأمن، عرف ذلك أعلم الناس بربه صلى الله عليه وسلم فقال: (وجعلت قُرَّة عيني في الصلاة)، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وفي محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)..

عباد الله: وإن من أعظم أسباب زوال الهم والغم: كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فعن ابي بن كعب رضي الله عنه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: مَا شِئْتَ! قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ؟! قَالَ مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ! قُلْتُ: النِّصْفَ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ! قَالَ: قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ! قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ (أَيْ أَصْرِفُ بِصَلَاتِي عَلَيْك جَمِيعَ الزَّمَنِ الَّذِي كُنْت أَدْعُو فِيهِ لِنَفْسِي) قَالَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ) يَعْنِي: إِذَا صَرَفْت جَمِيعَ أَزْمَانِ دُعَائِك فِي الصَّلَاةِ عَلَيَّ أُعْطِيت مَرَامَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

أيها المسلمون: ما أعظم الذكر والدعاء، وما أسهله على اللسان، وما أثقله في الميزان، وما أنجعه لشفاء كل قلب وجنان! إن الذكر والدعاء يطرد الهم والغم والحزن، ويجلب الفرح والسرور وطيب العيش.  فيا كل متكدِّر مضطرب متنغص، الأمان أمامك، والراحة بين يديك، فاغرُف منها كيفما شئت، يقول تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) واعلم رعاك الله تعالى: أن الله أرحم بك من أمك وابيك وصاحبتك وبنيك… ومن الأذكار الواردة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ورَبُّ الأرْضِ، ورَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل به هم أو غم قال: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرَفَةَ عَيْنٍ)

 أيها المؤمنون: ومن أسباب نوال الراحة والطمأنينة والاستقرار لزوم التوبة والاستغفار، فبالاستغفار تُدفع الكوارث والقلاقل، يقول تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وبالاستغفار تستمطر الخيرات والنعم المباركات، وتُدرك ألوان الزينة وأنواع النعيم التي تهنأ معها النفوس، يقول تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) وأيم الله… إنك لتجد عند المدمن على الاستغفار من طيب العيش، وتسهيل الأمور ما لا تجده عند غيره، وصدق الله العظيم، ومن أصدق من الله قيلاً: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)

عباد الله: سِرُّ الحياة الطيبة: القناعة بالرزق، والرضا بما قسم الله تعالى، وإذا رُزق العبد القناعة، أشرقت عليه شمس السعادة، وما قلَّ وكفى خير مما كثُر وألهى.

فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها

                           وانْظُرْ إلى فِعْلِهــا في الأَهْلِ والوَطَنِ

وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها

                               هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ القطن والكَفَنِ

خُذِ القَنـَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها

                                     لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ

إنَّ عدم القناعة بالأرزاق يورث الهموم والأحزان، والخوف من المستقبل الغائب، فيؤمل العبد ويؤمل، حتى يغدوَ في القبر مع آماله، يقول صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورُزق كَفافاً، وقنَّعه الله بما آتاه)

أيها المؤمنون: ومن أعظم أبواب السعادة وأوسعها: اصطناع المعروف وإغاثة الملهوف، وربَّ صدقة لمسكين، أو مسحة لرأس يتيم، أو مشية في حاجة غريم، تكون سبباً لدعوات لك في ظهر الغيب، تسعد معها دنياً وآخرة… نحن نرى أنه كلما كان الإنسان أعظم بناء لمستقبله ارتاحت نفسه، وطاب عيشه، فكيف بمن يستعين على بناء الآخرة بصنائع المعروف، والإحسان إلى عباد الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يوم القيامة حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ)

 يا كلَّ طالب للحياة الهنية: كظم الغيظ، والعفو عن المسيء سببٌ لنوالها والتلذذ بطعمها، فأطفئ أُخيَّ نار الغضب في قلبك بماء الصفح والمسامحة، واجعلها تاجاً على رأسك، أما إن طفقت تغضب لكل كبير وصغير، وتحاسب على كل عظيم وحقير فأنت تزرع كوابيس القلق بيديك، وتتعايش بين أشباح النَّكد والهم باختيارك وإرادتك.

تيقن رعاك المولى وحباك… أن مسامحة الخلق، رفعة لك بين الخلق، وصيانة لك من العداوة التي توغر الصدور، وتجعلها أفراناً مضطرمة بجمر الكراهية والحقد، يقول صلى الله عليه وسلم: (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ)  فيا كل مسامح أبشر بالعز والرفعة، وأبشر بالرضا والمغفرة، يقول تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) وأبشر أيضاً بجنة عالية قطوفها دانية، أعدها الله لعبادٍ قال عنهم: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ويقول تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)

نسأل الله بمنه وكرمه أن يُصلح قلوبنا وأحوالنا وعيشنا في الدنيا، وأن يجعل لذتها موصولة بلذة الآخرة، وأن يُباعد عنَّا أسباب الضِّيق والهم والعناء، وألا يجعلنا من أهل دار الشقاء، إنه سميع مجيب الدعاء.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، وفق من شاء لطاعته، وشرح صدورهم فجعلهم من أهل ذكره وشكره وحسن عبادته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها الزلفى لديه في دار كرامته، ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، ختم الله به رسالاته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد فيا أيها المسلمون: وكما أنَّ لانشراح الصدر، وطيب العيش أسباباً، فكذلك تكدُّر الحياة وتنغُّصها لها أسباب عدَّة ذكرها المولى سبحانه، من أعظمها وأكبرها: أن يختار الإنسان طريق الشقاء، وسبيل الضلال، فيقع في الشرك، أو الكفر، أو الألحاد أو في شيء منها، يقول الله تعالى مبيِّناً حال أهل الضلال (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) والجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلاَّم للعبيد، فحين ضاقت نفوسهم عن الحق والهدى، جازاهم ربهم بضيق في صدورهم، ووحشة في قلوبهم، جزاء وفاقاً (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)

عباد الله: ومن أسباب ضِيق النَّفْس، وكربة القلب: عصيان الخالق جلَّ جلاله، فالذنوب والمعاصي تورث في القلب ظلمة، وفي الصدر كآبة، لا يشعر معها المذنب العاصي بسعادة، ولا يهنأ بعيش، وإن حصل له معها سرور فهو فرح عابر، سرعان ما يزول، وتبقى الحسرة والكَمَد. يقول ابن القيم رحمه الله: (وسِرُّ ذلك أنَّ الطاعة توجب القرب من الله فكلما قوي القرب قوي الأُنس، والمعصية توجب البعد من الربِّ وكلما ازداد البعد قويت الوحشة، ولهذا يجد العبد وحشة بينه وبين عدوِّه للبعد الذي بينهما). ويكفي المعصية شُؤماً أنَّ الله سمَّاها ضلالاً مبيناً (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًاً مُبِينًا)

أيها المسلمون: ومن أسباب الهم والحزن وتكدُّر العيش: الإعراض عن طاعة الرحمن، والغفلة عن ذكر الملك الديَّان، وكما أنَّ حياة القلب وأُنْسَه وطمأنينتَه بذكر الله، فإنَّ موته وقبره في الإعراض عن ربِّه ومولاه، يقول تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)

قال ابن كثير رحمه الله: أي ضنكاً في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك)، وقال ابن القيم رحمه الله: من أعرض عن ذكره الذي أنزله، فله من ضيق الصدر، ونكد العيش، وكثرة الخوف، وشِدَّةِ الحِرْصِ والتَّعَبِ عَلى الدُّنْيا، والتَّحَسُّرِ عَلى فَواتِها قَبْلَ حُصُولِها وبَعْدَ حُصُولِها، والآلامِ الَّتِي في خِلالِ ذَلِكَ ما لا يَشْعُرُ بِهِ القَلْبُ، لِسَكْرَتِهِ، وانْغِماسِهِ في السُّكْرِ، فَهو لا يَصْحُو ساعَةً إلّا أحَسَّ وشَعَرَ بِهَذا الألَمِ، فَبادَرَ إلى إزالَتِهِ بِسُكْرٍ ثانٍ، فَهو هَكَذا مُدَّةَ حَيّاتِهِ، وأيُّ عِيشَةٍ أضْيَقُ مِن هَذِهِ لَوْ كانَ لِلْقَلْبِ شُعُورٌ؟

وهذه المعيشة الضَّنْك عباد الله ذكر بعض أهل التفسير أنَّها في عذاب القبر، وذهب آخرون أنها في الحياة الدنيا، والصحيح أنَّها تتناول معيشة في الدنيا، وحالة في البرزخ).

فاتقوا الله عباد الله: واحرصوا على أسباب السعادة وتشبثوا بها يطب عيشكم، وتهنأ حياتكم، واحذروا أسباب تكدُّر الحياة وتنغُّصها من الهم، والغم والحزن والضيق.

اللهم أجعل السعادة عنوان كل باب لنا في هذه الحياة. اللهم اجعل ما نريده في حياتنا قريباً لناظرنا، سعيداً لخواطرنا، اللهم اسعدنا سعادتين: الدنيا بخيرها، والجنة بفردوسها. اللهم لا تحرمنا من أمنية تفرح قلوبنا، وتوبة تجلي همومنا، وفرجاً يكشف الكرب عنا.

اللهمَّ إنِّا نعوذُ بك من الهمِّ والحزنِ ونعوذ بك من العجزِ والكسلِ، ونعوذ بك من الجُبنِ والبُخلِ وضَلَعِ الدَّينِ، و غَلَبَةِ الرجالِ.

اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم اكشف عنا وعن كل المسلمين كل شدة وضيق وكرب، اللهم إنا نسألك فرجاً قريباً من كل هم وغم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم ومستشاريهم ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم اشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا..

اللهم إن لنا أحباباً قد فقدناهم وفي التراب وسدناهم اللهم فأجعل النور في قبورهم يغشاهم واكتب يا ربنا الجنة سكنانا وسكناهم، وأكتب لنا في دار النعيم لقياهم إنك مولانا ومولاهم.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

     خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين